فصل: تفسير الآية رقم (158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (158):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} يا محمد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17] وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20] والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول الله إلى الناس كلهم.
قال البخاري، رحمه الله، في تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر حدثني بسر ابن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء، رضي الله عنه، يقول: كانت بين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عمر عنه مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال أبو الدرداء: ونحن عنده- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما صاحبكم هذا فقد غامر»- أي: غاضب وحاقد- قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر- قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يأيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت».
انفرد به البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي- ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا». إسناده جيد، ولم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن أبي الهاد، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: «لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل؛ فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله». إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي، لم يدخل الجنة».
وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس- وهو سليم بن جبير- عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار».
تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا وأعطيت الشفاعة- وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا».
وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا، من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة».
وقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} صفة الله تعالى، في قوله {رَسُولُ اللَّهِ} أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة، وله الحكم.
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ} أخبرهم أنه رسول الله إليهم، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، {النَّبِيِّ الأمِّيِّ} أي: الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت بذلك في كتبهم؛ ولهذا قال: {النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أي: يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه {وَاتَّبِعُوهُ} أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: إلى الصراط المستقيم.

.تفسير الآية رقم (159):

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}
يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52- 54]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية [البقرة: 121]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107- 109]
وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا، فقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم، وكفروا- وكانوا اثني عشر سبطا- تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله، عز وجل، أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] و{وعد الآخرة}: عيسى ابن مريم- قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفًا.
وقال ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السُّدِّي: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال: قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْد.

.تفسير الآيات (160- 162):

{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}
تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة، وهي مدنية، وهذا السياق مكي، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة.

.تفسير الآية رقم (163):

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}
هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] يقول الله تعالى، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَاسْأَلْهُمْ} أي: واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم. وهذه القرية هي أيلة وهي على شاطئ بحر القلزم.
قال محمد بن إسحاق: عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} قال: هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور.
وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.
وقال عبد الله بن كثير القارئ، سمعنا أنها أيلة. وقيل: هي مدين، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد: هي قرية يقال لها. مقنا بين مدين وعَيدُوني.
وقوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} أي: يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك. {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} قال الضحاك، عن ابن عباس: أي ظاهرة على الماء.
وقال العوفي، عن ابن عباس: {شُرَّعًا} من كل مكان.
قال ابن جرير: وقوله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} أي: نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم المحلل لهم صيده {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} نختبرهم {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.
وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام.
وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل».
وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا.

.تفسير الآيات (164- 166):

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة. وفرقة نهت عن ذلك، وأنكرت واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}؟ أي: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت لهم المنكرة: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره: هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب، أي: نفعل ذلك {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يقولون: ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ارتكبوا المعصية {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين:
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} قال: هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة، يقال لها: أيلة، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها. فمضى على ذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة وقالوا: تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا غيًا وعتوًا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة: تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى؟ فقالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} والذين قالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة.
وروى العوفي، عن ابن عباس قريبًا من هذا.
وقال حماد بن زيد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}.
قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: {أتعظون قوما الله مهلكهم}، أم لا؟ قال: فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم نجوا، فكساني حلة.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جُرَيْج، حدثني رجل، عن عكرمة قال: جئت ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت: ما يبكيك يا أبا عباس، جعلني الله فداك؟ قال: فقال: هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو في سورة الأعراف، قال: تعرف أيلة قلت: نعم. قال: فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضًا سمانًا كأنها الماخض، تتبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام. فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت. فكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت.
وقال الأيمنون: ويلكم، الله، الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله.
وقال الأيسرون: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}؟ قال الأيمنون: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون: فقد فعلتم، يا أعداء الله. والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلما، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله، قردة والله تعاوي لها أذناب. قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فتقول: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها، أي نعم. ثم قرأ ابن عباس: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها؟. قال: قلت: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}؟ قال: فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين.
وكذا روى مجاهد، عنه.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، أخبرنا أشهب بن عبد العزيز، عن مالك، قال: زعم ابن رومان أن قوله تعالى: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} قال: كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر، فاتخذ- لذلك- رجل خيطًا ووتدًا، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد، أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: فإنه جلد حوت وجدناه. فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك- ولا أدري لعله قال: ربط حوتين- فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا رائحة، فجاءوا فسألوه فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع. فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم. فغدوا عليهم جيرانهم مما كانوا حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسح به.
وقد قدمنا في سورة البقرة من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية، ولله الحمد والمنة.
القول الثاني: أن الساكتين كانوا من الهالكين.
قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه قال: ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعا، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتًا فخزم أنفه ثم، ضرب له وتدًا في الساحل، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، ففعل علانية. قال: فقالت طائفة للذين ينهونهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} فقالوا: سخط أعمالهم {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} إلى قوله: {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال ابن عباس: كانوا أثلاثًا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.
وهذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين، أولى من القول بهذا؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا.
و{بَئِيسٍ} فيه قراءات كثيرة، ومعناه في قول مجاهد: الشديد، وفي رواية: أليم.
وقال قتادة: موجع. والكل متقارب، والله أعلم.
وقوله: {خاسئين} أي: ذليلين حقيرين مهانين.